الهدي النبوي في أزمة الغذاء العالمي

إعداد

الدكتور نبيل اليماني عضو المجمع الفقهي الأوربي المستقل للدراسات المالية الإسلامية CIFIE

الإعجاز الإقتصادي في هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم 

  الهدي النبوي في أزمة الغذاء العالمي 

في الصحيح عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، قال

“كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه”.

وفيه: “رأيت الناس في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا ابتاعوا الطعام جزافاً يُضربون أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم”.

وعن عبد الله بن عباس، ‏رضي الله عنهما، قال: “‏أمّا الذي نهى عنه النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم، ‏‏فهو الطعام أن يباع حتى يقبض”.

ولما سُئل عن حكمة النهي قال: “ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ”، وفي رواية: “ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ؟”

كان هديه، صلى الله عليه وسلم، منع تداول الطعام في مكانه دون قبضه ونقله إلى حيازة المشتري، خاصة إذا كان ذلك جزافاً، أي دون استيفاء الطعام بالكيل أو الوزن، لأن هذا يؤدي إلى أن يتحول البيع والشراء إلى مجرد أداة للاسترباح من فروق الأسعار،

كما نبه لذلك حبر الأمة، رضي الله عنه، وليس وسيلة لتلبية احتياج المستهلكين من هذه السلعة الضرورية. ونظراً لأن الطعام ضروري لكل فئات المجتمع، فإن أي انحراف في سوق هذه السلعة سيؤدي إلى تضرر الجميع، وعلى الأخص الفئات الأكثر حاجة والأشد فقراً.

فالهدي النبوي إذن يمنع مما نسميه اليوم “المجازفة” speculation في سوق السلع الضرورية، سواء كانت القوت أو الطاقة.

وإذا نظرنا إلى أهم أسباب الارتفاع الفاحش في أسعار الغذاء الضروري اليوم، وجدنا المجازفة وهبوط قيمة الدولار في مقدمة الأسباب المباشرة للأزمة. وتدهور قيمة الدولار نتج أساساً من المديونية الهائلة التي تثقل كاهل الاقتصاد الأمريكي، حيث تجاوزت المديونية الحكومية والخاصة 30 تريليون دولار، مع نمو متزايد يجعل من الممتنع الاستمرار في خدمة هذه الديون في ظل نظام الفائدة دون انخفاض كبير في قيمة الدولار، وهو ما كان الاقتصاديون يحذرون منه قبل أكثر من 15 عاماً.

أما المجازفة فهي داء الأسواق العالمية، سواء كانت في السلع أو الأسهم أو غيرها. لكن مع الأزمات التي أصابت أسواق الأسهم بسبب انفجار فقاعة شركات الإنترنت في أواخر القرن الماضي، ومع تراجع أسواق السندات بسبب ضعف الدولار، أصبحت الخيارات المتاحة أمام المجازفين محدودة،

 وبرزت أسواق السلع (النفط والغذاء) باعتبارها فئة مختلفة من الأصول التي يمكن أن تعوض تدهور فرص الربح في الأسواق الأخرى.
ولهذا الغرض توجهت رؤوس الأموال المجازفة speculative capital نحو أسواق السلع منذ بداية القرن، وتضاعف ذلك مع ظهور بوادر أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة ثم انهيارها في 2007، حيث شهدت أسعار السلع في أواخر العام الماضي وأوائل هذا العام قفزات هائلة تتجاوز الارتفاعات في الفترة السابقة.

فقد ارتفع مؤشر أسعار الغذاء وفقاً لمنظمة الفاو بنهاية 2007 بنسبة 40 في المائة مقارنة بنهاية العام الذي قبله، وبنسبة 50 في المائة خلال النصف الأول من عام 2008 مقارنة بنظيره من العام السابق.
وأهم الأدوات التي يلجأ لها المجازفون هي سوق المستقبليات futures، التي لا تتضمن استلام الثمن أو تسليم السلع، وإنما مجرد التسوية على فروق الأسعار عند أو قبل حلول الأجل، أو تأجيل العقد مقابل رسوم إضافية rollover إلى تاريخ لاحق توقعاً لمزيد من ارتفاع الأسعار.

وهذا الأخير شهد نمواً متزايداً في السنوات الأخيرة، ما ضاعف من ارتفاع الأسعار بشكل أسي، وفقاً للشهادة التي أدلى بها في 20 أيار (مايو) من هذا العام مايكل ماسترز Michael Masters، مدير أحد صناديق التحوط، أمام لجنة الأمن الوطني بمجلس الشيوخ الأمريكي.

وأفاد ماسترز بأن حجم سوق المستقبليات في السلع ارتفع من 90 مليار دولار في 2002 إلى 493 مليارا في 2007، وإلى 700 مليار في آذار (مارس) 2008. أي أن السوق تضاعفت أكثر من سبع مرات في أقل من خمس سنوات، 40 في المائة منها في الأشهر الثلاثة الأولى فقط من هذا العام.

كما أشار إلى أن نسبة المجازفين في جانب الطلب تبلغ 67 في المائة من مجمل العقود، وتصل في حالة القمح إلى 84 في المائة. أي أن النصيب الأكبر من الطلب على عقود السلع عموماً والغذاء، خصوصاً هي للمراهنين والمجازفين وليست للمستهلكين.

وإذا علمنا أن أسعار الغذاء في السوق الحقيقية التي يتحقق فيها التسليم الفعلي تتحدد من خلال الأسعار في أسواق المستقبليات، تبيَّن لنا حجم الأثر الذي يخلفه المجازفون بمئات المليارات على المواطن العادي في الدول النامية الذي بالكاد يجد ما يكفي لشراء قوت يومه.

إن سوق المستقبليات من حيث المبدأ لا تخضع لقيود الإنتاج والاستهلاك التي تخضع لها السوق الحقيقية، ولذلك فهي يمكن أن تتمدد وتتضاعف بسرعة كبيرة لا تتناسب مع قوانين العرض والطلب الأساسية. لكن سلوك هذه السوق يؤثر مباشرة في السوق الحقيقية، ولذلك يجد المواطن العادي نفسه، ومن ورائه الحكومات الوطنية، يدفع ثمن هذه المجازفات غير المسؤولة.

وقد صدق جوزيف ستيجليتز Joseph Stiglitz، الحائز جائزة نوبل ورئيس المستشارين الاقتصاديين للرئيس السابق كلينتون، حين قال:

 إن المجازفين إنما يربحون في النهاية من الحكومات وليس من بعضهم بعضاً، لأن المجازفات في حقيقتها مباراة صفرية ما يربحه فيها طرف يخسره الطرف الآخر. ولذلك طالب ستيجليتز مراراً بإعادة بناء النظام المالي العالمي بسبب الاختلالات الجوهرية التي يعانيها.

وهذه الآثار السلبية للمجازفات دعت رئيس لجنة الأمن الوطني في مجلس الشيوخ الأمريكي، جو ليبرمان Joe Lieberman، إلى أن يدعو في 24 حزيران (يونيو) إلى جملة من التشريعات التي تقيد وتحدد حجم المجازفات في أسواق السلع،

خاصة من قبل المؤسسات المالية وكبار المستثمرين.

كما دعت لجنة أخرى برئاسة بيرون دورجان Byron Dorgan في التاريخ نفسه إلى اقتراح تعديل أنظمة هيئة مستقبليات السلعCommodity Futures Trading Commission للحد من المجازفات المفرطةexcessive speculation، التي حرفت السوق عن الهدف الذي أنشئت من أجله وهو الحماية من المخاطر للأطراف التجارية.

إن المستقبليات، وهي إحدى أهم أدوات المجازفة في الأسواق العالمية، غير مقبولة شرعاً في صورتها السائدة بسبب تأجيل البدلين الذي يدخل في الدين بالدين المنهي عنه بإجماع العلماء. فجواز بيع السلع مستقبلاً قائم على عقد السلم الذي يشترط تعجيل الثمن كاملاً وقت التعاقد.

أما المستقبليات فليس فيها تعجيل للثمن (عدا رسوم الهامش الضئيلة)، ولذلك لا يكلف الدخول في العقد أكثر من مجرد الالتزام. فهو بذلك يسهل الدخول في عملية المجازفة ومن ثم تضاعف حجم السوق والمراهنات الضارة المترتبة عليه.

وقد طالب الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل موريس آليه Maurice Allais برفع الهامش المطلوب في المستقبليات بدرجة كبيرة من أجل تخفيف عمليات المجازفة في الأسواق العالمية.

والشريعة الإسلامية اشترطت ما هو أكثر من ذلك وهو تعجيل الثمن مقدماً، ما يخفض عنصر المجازفة إلى أدنى حد.

أما في مجال السلع الضرورية والطعام خصوصاً، فقد اشترط النبي، صلى الله عليه وسلم، القبض الحسي ونقل الطعام من مقر الشراء.

وهذا التنظيم يهدف إلى توجيه التبادل لمصلحة المنتجين والمستهلكين وليس المجازفين. فهو يخدم مصالح الأطراف التجارية التي تحقق قيمة مضافة للاقتصاد أكثر مما يخدم مصالح الأطراف المجازفة. وقد طالب عدد من المراقبين بتعاون المنتجين والمستهلكين في مجال النفط والغذاء لإخراج المجازفين أو على الأقل تقليص تأثيرهم إلى أدنى حد.

إن أزمة أسعار السلع العالمية اليوم ناتجة عن أمرين: تدهور قيمة الدولار بسبب تضاعف المديونية من خلال نظام الفائدة، والمجازفات الضارة القائمة على الميسر والرهان.

 فالربا والميسر هما مصدر الانحراف والاضطراب في النشاط الاقتصادي. فليس غريباً أن يكون هذان هما أصول المعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية، التي إنما بعث بها النبي، صلى الله عليه وسلم لتحقيق مصالح البشرية.

وصدق الله العظيم إذ يقول عن هذا النبي الكريم : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))