إعداد
الدكتور نبيل اليماني عضو المجمع الفقهي الأوربي المستقل للدراسات المالية الإسلامية
المعاملات : جمعُ معاملةٍ، وهي مصدر عَامَلَ على وزن فَاعَلَ، وفَاعَلَ صيغةٌ تدلُّ على المُشاركة كثيراً : ضَارَبَ، وقَاتَلَ ونحوها ([1]). والتعاملُ بمعنى المعاملة أيضاً. قال في تاج العروس : وعاملتُه في كلام أهل الأمصار يُرادُ به : التَّصرُّفُ من البيع ونحوه ([2]).
وأما في اصطلاح الفقهاء فإنهم يُطلِقونَ هذه الكلمة “معاملات” على التصرفات يُقصدُ بها في الأصل قضاء مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة ونحوها ([3]). ويشمل هذا المعنى الذي استعمله عامَّةُ الفقهاءِ أيضاً أبوابَ السَّلَم والإجارة والوكالة والشركة والصُّلح والمزارعة والمُساقاة والجعالة والضَّمان والعارية ونحوها من الأبواب والمسائل التي تدخل تحتها وهي كثيرة جداً. وغالباً ما يُقصد بهذا المصطلح – على هذا المعنى – المعاملات المالية بشكل خاصٍّ، فلا يدخل فيها فقه النكاح والطلاق ونحوها.
ومن جهةٍ أخرى يُطلقُ لفظ “المعاملات” بمعنى آخر وهو : مقابل العبادات، وهذا استعمالٌ مُنتشرٌ ومَشهورٌ في كتب فقه المذاهب المعتبرة ([4]). والفرق بين المعنيين هو أن المعنى الثاني أشملُ وأعمُّ من السابق؛ حيث يشمَلُ هذا المعنى الواسع معاملات أخرى أكثر كالنكاح والطلاق ونحوها. إلا أن أكثر الفقهاء قد تعودوا إفراد النكاح وما يتبعهُ من أبواب بقسمٍ خاصٍّ به. وبهذا أصبح مصطلح “المعاملات” خاصَّاً بما عدا النكاح وتوابعه.
ولكن عند دراستنا لفقه المعاملات المالية يجب أن نلاحظَ بعض الأمور :
1- أن التفريق بين العبادات والمعاملات في تقسيمات الفقهاءِ لكتبهم ومصنَّفاتهم لا يَعني انتفاءَ معنى التعبُّد في المعاملات واختصاصه بالعبادات المَحضَةِ، لأن كل الأحكام الشرعية في أبواب المعاملات أو العبادات مقصودٌ بها التعبُّد لله تعالى والتقرُّب إليه بالتزام تعاليم الشريعة في كل تصرفات الإنسان وأعماله ومقاصده مهما كانت، إلا أن هذا التعبُّدَ إما أن يكون مَحضاً، وهو ما سمَّاه الفقهاء بقسم العبادات، وإما أن يكون تعبداً يَظهر فيه تحقيق مصلحة العباد في العاجل أي في الدنيا، ولكن المآل والعاقبة واحدةٌ فكلها أحكامٌ شرعيةٌ من عند الله فلا ينبغي التقليل من شأن هذا أو ذاك.
2- هذا الاصطلاحات المذكورة؛ “المعاملات” و ” العبادات” لا أثر لها في الأحكام الشرعية، فاختلاف التقسيمات في أبواب الفقه هو من باب الترتيب والتنظيم فقط، ولا أثر له في الأحكام الشرعية.
3- أنَّ أحكام النكاح وتوابعه وأبواب الشهادات والجنايات بأنواعها والحدود وأحكامها والفرائض والوصية ونحوها لا تدخلُ في موضوع دراستنا “فقه المعاملات المالية” رغم وجود معنى التعامل فيها لأنها ليست تصرفات مالية وهذه هي فائدة التقييد بـ”المالية” أي أن أغلب هذه الموضوعات التي سندرسها هنا يكون أحد العوضين فيها مالاً أو منفعةً ([5]).
وأما “المالية” فكما هو ظاهرٌ أي نسبةً إلى المال، والمالُ في اللغة هو : كلُّ ما يُقتنى ويُملَك من كلِّ شيءٍ سواءٌ كان عيناً أو منفعةً ([6]).
وأما في اصطلاح الفقهاء فقد اختلفوا في تحديد معناه على رأيين :
– الرأي الأول : ذهب الجمهور إلى أن المالَ ” هو كل ما له قيمةٌ يُلزَمُ مُتلِفَه بضمانه” ([7]).
– الرأي الثاني : ذهب الحنفية إلى أن المالَ هو ” كلُّ ما يُمكنُ حيازته وإحرازه ويُنتفعُ به عادةً ” ([8]).
ولكن السؤال هنا : ما هو الفرقُ بين التعريفين، وما هو أثر هذا الاختلاف وثمرته الفقهية ؟..
من خلال التعريفينِ السابقينِ – للجمهور والحنفية – نجدُ أن العلماء متفقين على أنَّ الأشياء المادية (المحسوسة) التي يُمكنُ إحرازُها والانتفاعُ بها تُعتبرُ مالاً. وأما الأمور المعنوية كالحقوق كحق الحضانة وحق الشِرب، أو المنافع كالعلم وسُكنى الدَّار واستعمال السيَّارة ولبس الثياب ونحوها فإنها تُعتبر مالاً على رأي الجمهور لأنها يُنتفَعُ بها ويُمكنُ حيازتُها بحيازة أصلها ومصدرها، ولأن المنافع هي المقصودة من الأعيان وهي الغاية منها ولولاها لما صارت الأعيان أموالاً لذلك فهي أموالٌ، وأمَّا على تعريف الحنفية فإنَّ الحقوق المعنويةَ والمنافعَ ليست من الأموال لأنها لا يُمكنُ إحرازُها وحيازتُها عندهم.
ومن الجدير بالذكر هنا الإشارةُ إلى تقسيمات الفقهاء للأموال؛ لأننا نحتاج لهذه التقسيمات أثناء دراستنا لكثيرٍ من مسائل فقه المعاملات المالية، ومن أهم تلك التقسيمات ما يلي ([9]) :
أولاً : ينقسم المال إلى مُتَقوَّم وغير مُتَقوَّم، وهذا تقسيمٌ باعتبار إباحة الانتفاع وحرمته :
1- المالُ المُتَقوَّم : هو ما كان في حِيازة الإنسان وأباح الشارعُ له الانتفاع به كالبيوت والسيارات والطعام والثياب والكُتُبُ عند أصحابها.
2- المال غير المُتَقوَّم : هو ما لم يُحْرَز بالفعل كالطيرِ في السماء والمعادن في الأرض أو ما لا يُباحُ الانتفاعُ به شرعاً مثلُ الخمر والخنزير بالنسبة للمسلم.
ومن ثمار هذا التقسيم هي أن المال المُتَقوَّم يصحُّ العقدُ عليه، والتصرُّفُ فيه بالبيع والهبة والوصية والشركة ونحوها، أم المال غير المُتَقوَّم فلا يجوز فيه شيءٌ من ذلك، وكذلك مَن أتلفَ مالاً مُتَقوَّما لغيره وجب عليه ضمان مثله أو قيمته لأنه محميٌّ من الشارع، وأما المال غير المُتَقوَّم فلا يَضمن متلفُه.
ثانياً : ينقسمُ المالُ إلى عقارٍ ومنقول، وهذا التقسيم باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره :
1- العَقَار : هو ما لا يُمكنُ نَقْلُهُ بحالٍ من الأحوال، كالبيوت والأراضي.
2- المنقول : هوما يُمكنُ نقله وتحويلُه من مكان إلى مكان سواءٌ تغيَّرت هيأتُه (صفته الظاهرة) أم لم تتغير، مثل العروض التجارية وأنواع الحيوانات والمَكيلات والموزونات ونحوها. إلا أن مذهب المالكية في المنقول هو ما لا تتغير هيئتُه بنقله وتحويله كالأرض مثلاً.
ومن فوائد هذا التقسيم وثمراته أنَّ حقَّ الشُّفعة يجري في العقار دون المنقول إلا عند قليل من الفقهاء، وكذلك حقوق الجوار والارتفاق تتعلق بالعقار دون المنقول، وكذلك يجوز للوصي أن يبيع المنقول من أموال الصغار بحسب ما يراه من المصلحة، ولكن ليس له أن يبيع العقارات من أموالهم إلا بمُسوِّغٍ (سببٍ) شرعيٍّ لذلك.
ثالثاً : تقسيم المال إلى مِثْلي وقِيمي، وهذا باعتبار تماثل أجزاء المال وعدم تماثلها :
1- المال المِثْلي : هو ما له نظيرٌ ومِثلٌ في الأسواق من غير تفاوتٍ بين أجزائه أو آحاده يُعتدُّ به في التعامل. وهو أربعة أنواع :
– المَكيلات : أي التي تُقدَّر بالكيل، كالقمحِ والشَّعير والزيوت ونحوها.
– الموزونات : أي التي تُقدَّر بالوزن، كالذهب والحديد ونحوها.
– العدديات : أي التي تُقدَّر بالعدد، إذا كانت متقاربة كالبيض والجوز ونحوها.
– الذرعيات : أي التي تُقدَّر بالذراع أو المتر أوغيرها كالأقمشة ونحوها.
2- المال القِيمي : هو ما لا مِثلَ له في الأسواق أو له نظيرٌ ولكن بتفاوتٍ كبيرٍ لا يُتسامَحُ به عادةً.كالبيوت والحيوانات والأحجار الكريمة ونحوها.
ومن فوائد هذا التقسيم وآثاره، أن المال المثلي يثبتُ دَيناً في الذمة بأن يكون ثمناً في البيع عن طريق تعيين جنسه ووصف، بخلاف المال القيمي فإنه لا يثبتُ ديناً في الذمة، كما أن الضمان في إتلاف المال يكون بمثله أما في القيمي فيكون بقيمته.
رابعاً : المال الاستعمالي والمال الاستهلاكي، باعتبار بقاء عينه بالاستهلاك أو عدم بقائها :
1- المال الاستعمالي : وهو الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالبيوت والأراضي والسيارات ونحوها. وهذا ما يُعرف في الاصطلاح الاقتصادي بالسلع المعمِرة (Durable Goods).
2- الاستهلاكي : وهو الذي لا يُمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، كأنواع الطعام والشراب والنفط والورق ونحوها. وهذا ما يُعرف في الاقتصاد الحديث بالسلع غير المعمِرة (Nondurable Goods).
وتظهر فائدة هذا التقسيم وثمرته بأن كلاً من النوعين المذكورين يَقبلُ نوعاً مُعيَّناً من العقود؛ فالمال الاستهلاكي يَقبلُ العقود التي غرضُها الاستهلاك فقط لا الاستعمال كالقرض والإعارة ونحوها، أما المال الاستعمالي فإنه يقبلُ العقودَ التي هدفها الاستعمال دون الاستهلاك كالإجارة والإعارة ونحوها.